الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ - إنَّك سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ . فَإِذَا جِئْتَهُمْ : فَادْعُهُمْ إلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ . فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ : أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ . فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَك بِذَلِكَ ، فَأَخْبِرْهُمْ : أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً ، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ . فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَك بِذَلِكَ ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ . وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ . فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ } .
شرح: 1
" الزَّكَاةُ " فِي اللُّغَةِ لِمَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : النَّمَاءُ . وَالثَّانِي : الطَّهَارَةُ . فَمِنْ الْأَوَّلِ . قَوْلُهُمْ : زَكَاةُ الزَّرْعِ . وَمِنْ الثَّانِي : قَوْله تَعَالَى { وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } وَسُمِّيَ هَذَا الْحَقُّ زَكَاةً بِالِاعْتِبَارَيْنِ . أَمَّا بِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ : فَبِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ إخْرَاجُهَا سَبَبًا لِلنَّمَاءِ فِي الْمَالِ . كَمَا صَحَّ { مَا نَقَصَ مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ } وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهُ : أَنَّ النُّقْصَانَ مَحْسُوسٌ بِإِخْرَاجِ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ . فَلَا يَكُونُ غَيْرَ نَاقِصٍ إلَّا بِزِيَادَةٍ تُبْلِغُهُ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ، عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا . أَعْنِي : الْمَعْنَوِيَّ وَالْحِسِّيَّ فِي الزِّيَادَةِ . أَوْ بِمَعْنَى : أَنَّ مُتَعَلَّقَهَا الْأَمْوَالُ ذَاتُ النَّمَاءِ . وَسُمِّيَتْ بِالنَّمَاءِ لِتَعَلُّقِهَا بِهِ أَوْ بِمَعْنَى تَضْعِيفِ أُجُورِهَا . كَمَا جَاءَ { إنَّ اللَّهَ يُرْبِي الصَّدَقَةَ حَتَّى تَكُونَ كَالْجَبَلِ . } وَأَمَّا بِالْمَعْنَى الثَّانِي : فَلِأَنَّهَا طُهْرَةٌ لِلنَّفْسِ مِنْ رَذِيلَةِ الْبُخْلِ ، أَوْ لِأَنَّهَا تُطَهِّرُ مِنْ الذُّنُوبِ . وَهَذَا الْحَقُّ أَثْبَتَهُ الشَّارِعُ لِمَصْلَحَةِ الدَّافِعِ وَالْآخِذِ مَعًا . أَمَّا فِي حَقِّ الدَّافِعِ : فَتَطْهِيرُهُ وَتَضْعِيفُ أُجُورِهِ . وَأَمَّا فِي حَقِّ الْآخِذِ : فَلِسَدِّ خَلَّتِهِ . وَحَدِيثُ مُعَاذٍ : يَدُلُّ عَلَى فَرِيضَةِ الزَّكَاةِ . هُوَ أَمْرٌ مَقْطُوعٌ بِهِ مِنْ الشَّرِيعَةِ . وَمَنْ جَحَدَهُ كَفَرَ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ } لَعَلَّهُ لِلتَّوْطِئَةِ وَالتَّمْهِيدِ لِلْوَصِيَّةِ بِاسْتِجْمَاعِ هِمَّتِهِ فِي الدُّعَاءِ لَهُمْ . فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ أَهْلُ عِلْمٍ ، وَمُخَاطَبَتُهُمْ لَا تَكُونُ كَمُخَاطَبَةِ جُهَّالِ الْمُشْرِكِينَ ، وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فِي الْعِنَايَةِ بِهَا وَالْبُدَاءَةُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالشَّهَادَتَيْنِ : لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْلُ الدِّينِ الَّذِي لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ فُرُوعِهِ إلَّا بِهِ . فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ غَيْرُ مُوَحِّدٍ عَلَى التَّحْقِيقِ - كَالنَّصَارَى - فَالْمُطَالَبَةُ مُتَوَجِّهَةٌ إلَيْهِ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الشَّهَادَتَيْنِ عَيْنًا . وَمِنْ كَانَ مُوَحِّدًا - كَالْيَهُودِ - فَالْمُطَالَبَةُ لَهُ : بِالْجَمْعِ بَيْنَ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ التَّوْحِيدِ ، وَبَيْنَ الْإِقْرَارِ بِالرِّسَالَةِ . وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ - الَّذِينَ كَانُوا بِالْيَمَنِ - عِنْدَهُمْ مَا يَقْتَضِي الْإِشْرَاكَ ، وَلَوْ بِاللُّزُومِ يَكُونُ مُطَالَبَتُهُمْ بِالتَّوْحِيدِ لِنَفْيِ مَا يَلْزَمُ مِنْ عَقَائِدِهِمْ . وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ : أَنَّ مَنْ كَانَ كَافِرًا بِشَيْءٍ ، مُؤْمِنًا بِغَيْرِهِ : لَمْ يَدْخُلْ فِي الْإِسْلَامِ إلَّا بِالْإِيمَانِ بِمَا كَفَرَ بِهِ . وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ - فِي أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالْفُرُوعِ - مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إنَّمَا أَمَرَ أَوَّلًا بِالدُّعَاءِ إلَى الْإِيمَانِ فَقَطْ . وَجَعَلَ الدُّعَاءَ إلَى الْفُرُوعِ بَعْدَ إجَابَتِهِمْ الْإِيمَانَ . وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ ، مِنْ حَيْثُ إنَّ التَّرْتِيبَ فِي الدُّعَاءِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ التَّرْتِيبُ فِي الْوُجُوبِ . أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ لَا تَرْتِيبَ بَيْنَهُمَا فِي الْوُجُوبِ ؟ وَقَدْ قُدِّمَتْ الصَّلَاةُ فِي الْمُطَالَبَةِ عَلَى الزَّكَاةِ . وَأَخَّرَ الْإِخْبَارَ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ عَنْ الطَّاعَةِ بِالصَّلَاةِ ، مَعَ أَنَّهُمَا مُسْتَوِيَتَانِ فِي خِطَابِ الْوُجُوبِ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَك بِذَلِكَ } طَاعَتُهُمْ فِي الْإِيمَانِ بِالتَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَتَيْنِ . وَأَمَّا طَاعَتُهُمْ فِي الصَّلَاةِ : فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إقْرَارُهُمْ بِوُجُوبِهَا وَفَرْضِيَّتِهَا عَلَيْهِمْ ، وَالْتِزَامُهُمْ لَهَا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الطَّاعَةُ بِالْفِعْلِ ، وَأَدَاءُ الصَّلَاةِ . وَقَدْ رُجِّحَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ هُوَ الْإِخْبَارُ بِالْفَرِيضَةِ . فَتَعُودُ الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إلَيْهَا . وَيَتَرَجَّحُ الثَّانِي بِأَنَّهُمْ لَوْ أَخْبَرُوا بِالْوُجُوبِ . فَبَادَرُوا بِالِامْتِثَالِ بِالْفِعْلِ لَكَفَى . وَلَمْ يُشْتَرَطْ تَلَفُّظُهُمْ بِالْإِقْرَارِ بِالْوُجُوبِ . وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي الزَّكَاةِ : لَوْ امْتَثَلُوا بِأَدَائِهَا مِنْ غَيْرِ تَلَفُّظٍ بِالْإِقْرَارِ لَكَفَى . فَالشَّرْطُ عَدَمُ الْإِنْكَارِ ، وَالْإِذْعَانُ لِلْوُجُوبِ ، لَا التَّلَفُّظُ بِالْإِقْرَارِ . وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ } عَلَى عَدَمِ جَوَازِ نَقْلِ الزَّكَاةِ عَنْ بَلَدِ الْمَالِ . وَفِيهِ عِنْدِي ضَعِيفٌ . لِأَنَّ الْأَقْرَبَ أَنَّ الْمُرَادَ : يُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُمْ مُسْلِمُونَ ، لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ . وَكَذَلِكَ الرَّدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ فَهُوَ مُحْتَمَلٌ احْتِمَالًا قَوِيًّا . وَيُقَوِّيهِ : أَنَّ أَعْيَانَ الْأَشْخَاصِ الْمُخَاطَبِينَ فِي قَوَاعِدِ الشَّرْعِ الْكُلِّيَّةِ لَا تُعْتَبَرُ . وَقَدْ وَرَدَتْ صِيغَةُ الْأَمْرِ بِخِطَابِهِمْ فِي الصَّلَاةِ . وَلَا يَخْتَصُّ بِهِمْ قَطْعًا - أَعْنِي الْحُكْمَ - وَإِنْ اخْتَصَّ بِهِمْ خِطَابُ الْمُوَاجَهَةِ . وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ النِّصَابَ لَا يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ . وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ جَعَلَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ غَنِيًّا . وَقَابَلَهُ بِالْفَقِيرِ . وَمَنْ مَلَكَ النِّصَابَ فَالزَّكَاةُ مِنْهُ ، فَهُوَ غَنِيٌّ ، وَالْغَنِيُّ لَا يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ إلَّا فِي الْمَوَاضِعِ الْمُسْتَثْنَاةِ فِي الْحَدِيثِ . وَلَيْسَ بِالشَّدِيدِ الْقُوَّةِ . وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يَرَى إخْرَاجَ الزَّكَاةِ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ . لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ إلَّا الْفُقَرَاءَ . وَفِيهِ بَحْثٌ . وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ إعْطَاءِ الزَّكَاةِ لِلْإِمَامِ . لِأَنَّهُ وَصَفَ الزَّكَاةَ بِكَوْنِهَا " مَأْخُوذَةً مِنْ الْأَغْنِيَاءِ " فَكُلُّ مَا اقْتَضَى خِلَافَ هَذِهِ الصِّفَةِ فَالْحَدِيثُ يَنْفِيهِ . وَيَدُلُّ الْحَدِيثُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ كَرَائِمَ الْأَمْوَالِ لَا تُؤْخَذُ مِنْ الصَّدَقَةِ ، كَالْأَكُولَةِ وَالرُّبَّى وَهِيَ الَّتِي تُرَبِّي وَلَدَهَا . وَالْمَاخِضُ ، وَهِيَ الْحَامِلِ . وَفَحْلِ الْغَنَمِ ، وَحَزَرَاتِ الْمَالِ . وَهِيَ الَّتِي تُحْرَزُ بِالْعَيْنِ وَتُرْمَقُ ، لِشَرَفِهَا عِنْدَ أَهْلِهَا . وَالْحِكْمَةُ فِيهِ : أَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ مُوَاسَاةً لِلْفُقَرَاءِ مِنْ مَالِ الْأَغْنِيَاءِ . وَلَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ الْإِجْحَافُ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ . فَسَامَحَ الشَّرْعُ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ بِمَا يَضَنُّونَ بِهِ . وَنَهَى الْمُصَدِّقِينَ عَنْ أَخْذِهِ . وَفِي الْحَدِيثِ : دَلِيلٌ عَلَى عَظِيمِ أَمْرِ الظُّلْمِ ، وَاسْتِجَابَةِ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ ، وَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ عَقِيبَ النَّهْيِ عَنْ أَخْذِ كَرَائِمِ الْأَمْوَالِ . لِأَنَّ أَخْذَهَا ظُلْمٌ . وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ .
شرح: 1
" الزَّكَاةُ " فِي اللُّغَةِ لِمَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : النَّمَاءُ . وَالثَّانِي : الطَّهَارَةُ . فَمِنْ الْأَوَّلِ . قَوْلُهُمْ : زَكَاةُ الزَّرْعِ . وَمِنْ الثَّانِي : قَوْله تَعَالَى { وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } وَسُمِّيَ هَذَا الْحَقُّ زَكَاةً بِالِاعْتِبَارَيْنِ . أَمَّا بِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ : فَبِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ إخْرَاجُهَا سَبَبًا لِلنَّمَاءِ فِي الْمَالِ . كَمَا صَحَّ { مَا نَقَصَ مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ } وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهُ : أَنَّ النُّقْصَانَ مَحْسُوسٌ بِإِخْرَاجِ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ . فَلَا يَكُونُ غَيْرَ نَاقِصٍ إلَّا بِزِيَادَةٍ تُبْلِغُهُ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ، عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا . أَعْنِي : الْمَعْنَوِيَّ وَالْحِسِّيَّ فِي الزِّيَادَةِ . أَوْ بِمَعْنَى : أَنَّ مُتَعَلَّقَهَا الْأَمْوَالُ ذَاتُ النَّمَاءِ . وَسُمِّيَتْ بِالنَّمَاءِ لِتَعَلُّقِهَا بِهِ أَوْ بِمَعْنَى تَضْعِيفِ أُجُورِهَا . كَمَا جَاءَ { إنَّ اللَّهَ يُرْبِي الصَّدَقَةَ حَتَّى تَكُونَ كَالْجَبَلِ . } وَأَمَّا بِالْمَعْنَى الثَّانِي : فَلِأَنَّهَا طُهْرَةٌ لِلنَّفْسِ مِنْ رَذِيلَةِ الْبُخْلِ ، أَوْ لِأَنَّهَا تُطَهِّرُ مِنْ الذُّنُوبِ . وَهَذَا الْحَقُّ أَثْبَتَهُ الشَّارِعُ لِمَصْلَحَةِ الدَّافِعِ وَالْآخِذِ مَعًا . أَمَّا فِي حَقِّ الدَّافِعِ : فَتَطْهِيرُهُ وَتَضْعِيفُ أُجُورِهِ . وَأَمَّا فِي حَقِّ الْآخِذِ : فَلِسَدِّ خَلَّتِهِ . وَحَدِيثُ مُعَاذٍ : يَدُلُّ عَلَى فَرِيضَةِ الزَّكَاةِ . هُوَ أَمْرٌ مَقْطُوعٌ بِهِ مِنْ الشَّرِيعَةِ . وَمَنْ جَحَدَهُ كَفَرَ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ } لَعَلَّهُ لِلتَّوْطِئَةِ وَالتَّمْهِيدِ لِلْوَصِيَّةِ بِاسْتِجْمَاعِ هِمَّتِهِ فِي الدُّعَاءِ لَهُمْ . فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ أَهْلُ عِلْمٍ ، وَمُخَاطَبَتُهُمْ لَا تَكُونُ كَمُخَاطَبَةِ جُهَّالِ الْمُشْرِكِينَ ، وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فِي الْعِنَايَةِ بِهَا وَالْبُدَاءَةُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالشَّهَادَتَيْنِ : لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْلُ الدِّينِ الَّذِي لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ فُرُوعِهِ إلَّا بِهِ . فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ غَيْرُ مُوَحِّدٍ عَلَى التَّحْقِيقِ - كَالنَّصَارَى - فَالْمُطَالَبَةُ مُتَوَجِّهَةٌ إلَيْهِ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الشَّهَادَتَيْنِ عَيْنًا . وَمِنْ كَانَ مُوَحِّدًا - كَالْيَهُودِ - فَالْمُطَالَبَةُ لَهُ : بِالْجَمْعِ بَيْنَ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ التَّوْحِيدِ ، وَبَيْنَ الْإِقْرَارِ بِالرِّسَالَةِ . وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ - الَّذِينَ كَانُوا بِالْيَمَنِ - عِنْدَهُمْ مَا يَقْتَضِي الْإِشْرَاكَ ، وَلَوْ بِاللُّزُومِ يَكُونُ مُطَالَبَتُهُمْ بِالتَّوْحِيدِ لِنَفْيِ مَا يَلْزَمُ مِنْ عَقَائِدِهِمْ . وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ : أَنَّ مَنْ كَانَ كَافِرًا بِشَيْءٍ ، مُؤْمِنًا بِغَيْرِهِ : لَمْ يَدْخُلْ فِي الْإِسْلَامِ إلَّا بِالْإِيمَانِ بِمَا كَفَرَ بِهِ . وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ - فِي أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالْفُرُوعِ - مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إنَّمَا أَمَرَ أَوَّلًا بِالدُّعَاءِ إلَى الْإِيمَانِ فَقَطْ . وَجَعَلَ الدُّعَاءَ إلَى الْفُرُوعِ بَعْدَ إجَابَتِهِمْ الْإِيمَانَ . وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ ، مِنْ حَيْثُ إنَّ التَّرْتِيبَ فِي الدُّعَاءِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ التَّرْتِيبُ فِي الْوُجُوبِ . أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ لَا تَرْتِيبَ بَيْنَهُمَا فِي الْوُجُوبِ ؟ وَقَدْ قُدِّمَتْ الصَّلَاةُ فِي الْمُطَالَبَةِ عَلَى الزَّكَاةِ . وَأَخَّرَ الْإِخْبَارَ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ عَنْ الطَّاعَةِ بِالصَّلَاةِ ، مَعَ أَنَّهُمَا مُسْتَوِيَتَانِ فِي خِطَابِ الْوُجُوبِ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَك بِذَلِكَ } طَاعَتُهُمْ فِي الْإِيمَانِ بِالتَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَتَيْنِ . وَأَمَّا طَاعَتُهُمْ فِي الصَّلَاةِ : فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إقْرَارُهُمْ بِوُجُوبِهَا وَفَرْضِيَّتِهَا عَلَيْهِمْ ، وَالْتِزَامُهُمْ لَهَا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الطَّاعَةُ بِالْفِعْلِ ، وَأَدَاءُ الصَّلَاةِ . وَقَدْ رُجِّحَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ هُوَ الْإِخْبَارُ بِالْفَرِيضَةِ . فَتَعُودُ الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إلَيْهَا . وَيَتَرَجَّحُ الثَّانِي بِأَنَّهُمْ لَوْ أَخْبَرُوا بِالْوُجُوبِ . فَبَادَرُوا بِالِامْتِثَالِ بِالْفِعْلِ لَكَفَى . وَلَمْ يُشْتَرَطْ تَلَفُّظُهُمْ بِالْإِقْرَارِ بِالْوُجُوبِ . وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي الزَّكَاةِ : لَوْ امْتَثَلُوا بِأَدَائِهَا مِنْ غَيْرِ تَلَفُّظٍ بِالْإِقْرَارِ لَكَفَى . فَالشَّرْطُ عَدَمُ الْإِنْكَارِ ، وَالْإِذْعَانُ لِلْوُجُوبِ ، لَا التَّلَفُّظُ بِالْإِقْرَارِ . وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ } عَلَى عَدَمِ جَوَازِ نَقْلِ الزَّكَاةِ عَنْ بَلَدِ الْمَالِ . وَفِيهِ عِنْدِي ضَعِيفٌ . لِأَنَّ الْأَقْرَبَ أَنَّ الْمُرَادَ : يُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُمْ مُسْلِمُونَ ، لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ . وَكَذَلِكَ الرَّدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ فَهُوَ مُحْتَمَلٌ احْتِمَالًا قَوِيًّا . وَيُقَوِّيهِ : أَنَّ أَعْيَانَ الْأَشْخَاصِ الْمُخَاطَبِينَ فِي قَوَاعِدِ الشَّرْعِ الْكُلِّيَّةِ لَا تُعْتَبَرُ . وَقَدْ وَرَدَتْ صِيغَةُ الْأَمْرِ بِخِطَابِهِمْ فِي الصَّلَاةِ . وَلَا يَخْتَصُّ بِهِمْ قَطْعًا - أَعْنِي الْحُكْمَ - وَإِنْ اخْتَصَّ بِهِمْ خِطَابُ الْمُوَاجَهَةِ . وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ النِّصَابَ لَا يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ . وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ جَعَلَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ غَنِيًّا . وَقَابَلَهُ بِالْفَقِيرِ . وَمَنْ مَلَكَ النِّصَابَ فَالزَّكَاةُ مِنْهُ ، فَهُوَ غَنِيٌّ ، وَالْغَنِيُّ لَا يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ إلَّا فِي الْمَوَاضِعِ الْمُسْتَثْنَاةِ فِي الْحَدِيثِ . وَلَيْسَ بِالشَّدِيدِ الْقُوَّةِ . وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يَرَى إخْرَاجَ الزَّكَاةِ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ . لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ إلَّا الْفُقَرَاءَ . وَفِيهِ بَحْثٌ . وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ إعْطَاءِ الزَّكَاةِ لِلْإِمَامِ . لِأَنَّهُ وَصَفَ الزَّكَاةَ بِكَوْنِهَا " مَأْخُوذَةً مِنْ الْأَغْنِيَاءِ " فَكُلُّ مَا اقْتَضَى خِلَافَ هَذِهِ الصِّفَةِ فَالْحَدِيثُ يَنْفِيهِ . وَيَدُلُّ الْحَدِيثُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ كَرَائِمَ الْأَمْوَالِ لَا تُؤْخَذُ مِنْ الصَّدَقَةِ ، كَالْأَكُولَةِ وَالرُّبَّى وَهِيَ الَّتِي تُرَبِّي وَلَدَهَا . وَالْمَاخِضُ ، وَهِيَ الْحَامِلِ . وَفَحْلِ الْغَنَمِ ، وَحَزَرَاتِ الْمَالِ . وَهِيَ الَّتِي تُحْرَزُ بِالْعَيْنِ وَتُرْمَقُ ، لِشَرَفِهَا عِنْدَ أَهْلِهَا . وَالْحِكْمَةُ فِيهِ : أَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ مُوَاسَاةً لِلْفُقَرَاءِ مِنْ مَالِ الْأَغْنِيَاءِ . وَلَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ الْإِجْحَافُ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ . فَسَامَحَ الشَّرْعُ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ بِمَا يَضَنُّونَ بِهِ . وَنَهَى الْمُصَدِّقِينَ عَنْ أَخْذِهِ . وَفِي الْحَدِيثِ : دَلِيلٌ عَلَى عَظِيمِ أَمْرِ الظُّلْمِ ، وَاسْتِجَابَةِ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ ، وَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ عَقِيبَ النَّهْيِ عَنْ أَخْذِ كَرَائِمِ الْأَمْوَالِ . لِأَنَّ أَخْذَهَا ظُلْمٌ . وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ .